فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{ضرب الله مثلا للذِين كفرُواْ}
وهذان المثلان اللذان للكفار والمؤمنين معناهما: أن من كفر لا يغني عنه شيء ولا ينفعه وزرٌ ولو كان متعلقا بأقوى الأسباب، وأن من آمن لا يدفعه دافع عن رضوان الله تعالى ولو كان في أسوأ منشأ وأخسر حال. وقال بعض الناس: إن في المثلين عبرة لزوجات النبي محمد عليه السلام، حين تقدم عتابهن، وفي هذا بعد لأن النص أنه للكفار يبعد هذا.
واختلف الناس في خيانة هاتين المرأتين، فقال ابن عباس وغيره: خانتا في الكفر، وفي أن امرأة نوح كانت تقول للناس: إنه مجنون، وأن امرأة لوط كانت تنم إلى قومه متى ورده ضيف فتخبر به، وقال ابن عباس: وما بغت زوجة نبي قط، ولا ابتلي الأنبياء في نسائهم بهذا، وقال الحسن في كتاب النقاش: خانتاهما بالكفر والزنا وغيره، وقرأ الجمهور: {يغنيا} بالياء، وقرأ مبشر بن عبيد: {تغنيا} بالتاء من فوق.
{وضرب الله مثلا للذِين آمنُوا امْرأت فِرْعوْن إِذْ قالتْ ربِّ ابْنِ لِي عِنْدك بيْتا فِي الْجنّةِ}
{امرأة فرعون} اسمها آسية وقولها: {وعمله} معناه وكفره، وما هو عليه من الضلالة، وهذا قول كافة المفسرين، وقال جمهور من المفسرين: معناه من ظلمه وعقابه وتعذيبه لي، وروي في هذا أن فرعون اتصل به إيمانها بموسى، وأنها تحب أن يغلب، فبعث إليها قوما، وقال: إن رأيتم منها ذلك فابطحوها في الأرض ووتدوا يديها ورجليها وألقوا عليها أعظم حجر، وإن لم تروا ذلك فهي امرأتي. قال، فذهب القوم فلما أحست بالشر منهم دعت بهذه الدعوات فقبض الله روحها وصنع أولئك أمر الحجر بشخص لا روح فيه، وروي في قصصها غير هذا مما يطول ذكره، فاختصره لعدم صحته. وقال آخرون في كتاب النقاش: {وعمله} كناية عن الوطء والمضاجعة. وهذا ضعيف.
واختلف الناس في الفرج الذي أحصنت مريم، فقال الجمهور: هو فرج الدرع الذي كان عليها، وأنها كانت صينة، وأن جبريل عليه السلام: نفخ فيها الروح من جيب الدرع، وقال قوم من المتأولين: هو الفرج الجارحة، فلفظة {أحصنت}: إذا كان فرج الجارحة متمكنا حقيقة، والإحصان: صونه، وفيه هي مستعملة، وإذا قدرنا فرج الدرع فلفظ {أحصنت} فيه مستعارة من حيث صانته، ومن حيث صار مسلكا لولدها، وقوله تعالى: {فنفخنا} عبارة عن فعل جبريل حقيقة، وإن ذهب ذاهب إلى أن النفخ فعل الله تعالى، فهو عبارة عن خلقه واختراعه الولد في بطنها، وشبه ذلك بالنفخ الذي من شأنه أن يسير في الشيء برفق ولطف. وقوله تعالى: {من روحنا} إضافة المخلوق إلى خالق ومملوك إلى مالك كما تقول: بيت الله وناقة الله، وكذلك الروح الجنس كله هو روح الله. وقرأ الجمهور: {وصدّقت} بشد الدال، وقرأ أبو مجلز: بتخفيفها، وقرأ جمهور الناس: {بكلمات} على الجمع، وقرأ الجحدري: {بكلمة} على الإفراد، فأما الإفراد فيقوي: أن يريد أمر عيسى ويحتمل أن يريد أنه اسم جنس في التوراة، ومن قرأ على الجمع فيقوي أنه يريد التوراة، ويحتمل أن يريد أمر عيسى. وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ونافع: {وكتابه} على الوحيد، وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم، وخارجة عن نافع: {وكُتُبه} بضم التاء والجمع، وقرأ أبو رجاء بسكون التاء {وكتْبه}، وذلك كله مراد به التوراة والإنجيل، والقانتون: العابدون، والمعنى كانت من القوم {القانتين} في عبادتها وحال دينها.
نجز تفسير سورة التحريم والحمد لله كثيرا. اهـ.

.قال القرطبي:

{ضرب الله مثلا للذِين كفرُوا امْرأت نُوحٍ وامْرأت لُوطٍ}
ضرب الله تعالى هذا المثل تنبيها على أنه لا يُغْني أحدٌ في الآخرة عن قريب ولا نسيب إذا فرّق بينهما الدِّين.
وكان اسم امرأة نوح والهة، واسم امرأة لوط والعة؛ قاله مقاتل.
وقال الضحاك عن عائشة رضي الله عنها: إن جبريل نزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره أن اسم امرأة نوح واغلة واسم امرأة لوط والهة.
{فخانتاهُما} قال عكرمة والضحاك: بالكفر.
وقال سليمان بن رقية عن ابن عباس: كانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون.
وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه.
وعنه: ما بغت امرأة نبيّ قط.
وهذا إجماع من المفسرين فيما ذكر القُشيريّ.
إنما كانت خيانتهما في الدِّين وكانتا مشركتين.
وقيل: كانتا منافقتين.
وقيل: خيانتهما النميمة إذا أوحى (الله) إليهما شيئا أفشتاه إلى المشركين؛ قاله الضحاك.
وقيل: كانت امرأة لوط إذا نزل به ضيف دخنّت لتُعْلِم قومها أنه قد نزل به ضيف؛ لما كانوا عليه من إتيان الرجال.
{فلمْ يُغْنِينا عنْهُما مِن الله شيْئا} أي لم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما على الله تعالى عن زوجتيهما لمّا عصتا شيئا من عذاب الله؛ تنبيها بذلك على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة.
ويقال: إن كفار مكة استهزءوا وقالوا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم يشفع لنا؛ فبيّن الله تعالى أن شفاعته لا تنفع كفّار مكة وإن كانوا أقرباء، كما لا تنفع شفاعةُ نوح لامرأته وشفاعةُ لوط لامرأته، مع قربهما لهما لكفرهما.
وقيل لهما: {ادخلا النار مع الداخلين} في الآخرة؛ كما يقال لكفار مكة وغيرهم.
ثم قيل: يجوز أن تكون {امرأة نوح} بدلا من قوله: {مثلا} على تقدير حذف المضاف؛ أي ضرب الله مثلا امرأة نوح.
ويجوز أن يكونا مفعولين.
قوله تعالى: {وضرب الله مثلا للذِين آمنُواْ امرأة فِرْعوْن}
واسمها آسية بنت مزاحم.
قال يحيى بن سلام: قوله: {ضرب الله مثلا للذِين كفرُواْ} مثلٌ ضربه الله يحذّر به عائشة وحفْصة في المخالفة حين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ضرب لهما مثلا بامرأة فرعون ومريم ابنت عمران؛ ترغيبا في التمسك بالطاعة والثبات على الدِّين.
وقيل: هذا حثٌّ للمؤمنين على الصبر في الشدّة؛ أي لا تكونوا في الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون حين صبرت على أذى فرعون.
وكانت آسية آمنت بموسى.
وقيل: هي عمة موسى آمنت به.
قال أبو العالية: اطّلع فرعون على إيمان امرأته فخرج على الملأ فقال لهم: ما تعلمون من آسية بنت مزاحم؟ فأثْنوْا عليها.
فقال لهم: إنها تعبد ربا غيري.
فقالوا له: اقتلها.
فأوْتد لها أوتادا وشدّ يديها ورجليها فقالت: {ربِّ ابن لِي عِندك بيْتا فِي الجنة} ووافق ذلك حضور فرعون، فضحكت حين رأت بيتها في الجنة.
فقال فرعون: ألا تعجبون من جنونها! إنا نعذبها وهي تضحك؛ فقبض روحها.
وقال سلْمان الفارِسي فيما روى عنه عثمان النّهْديّ: كانت تعذب بالشمس، فإذا أذاها حرُّ الشمس أظلتّها الملائكة بأجنحتها.
وقيل: سمّر يديها ورجليها في الشمس ووضع على ظهرها رحى، فأطلعها الله حتى رأت مكانها في الجنة.
وقيل: لما قالت: {ربِّ ابن لِي عِندك بيْتا فِي الجنة} أُرِيت بيتها في الجنة يُبْنى.
وقيل: إنه من دُرّة؛ عن الحسن.
ولما قالت: {ونجِّنِي} نجّاها الله أكرم نجاة، فرفعها إلى الجنة، فهي تأكل وتشرب وتتنعّم.
ومعنى {مِن فِرْعوْن وعملِهِ} تعني بالعمل الكفر.
وقيل: من عمله من عذابه وظلمه وشماتته.
وقال ابن عباس: الجماع.
{ونجِّنِي مِن القوم الظالمين} قال الكلبي: أهل مصر.
مقاتل: القبط.
قال الحسن وابن كيْسان: نجاها الله أكرم نجاة، ورفعها إلى الجنة؛ فهي فيها تأكل وتشرب.
قوله تعالى: {ومرْيم ابنة عِمْران} أي واذكر مريم.
وقيل: هو معطوف على امرأة فرعون.
والمعنى: وضرب الله مثلا لمريم ابنت عمران وصبّرها على أذى اليهود.
{التي أحْصنتْ فرْجها} أي عن الفواحش.
وقال المفسرون: إنه أراد بالفرج هنا الجيب؛ لأنه قال: {فنفخْنا فِيهِ مِن رُّوحِنا} وجبريل عليه السلام إنما نفخ في جيْبها ولم ينفخ في فرجها.
وهي في قراءة أُبيّ فنفخنا في جيْبها من روحِنا.
وكل خرق في الثوب يسمى جيْبا؛ ومنه قوله تعالى: {وما لها مِن فُرُوجٍ} [ق: 6].
ويحتمل أن تكون أحصنت فرجها ونفخ الروح في جيبها.
ومعنى {فنفخْنا} أرسلنا جبريل فنفخ في جيبها {مِن رُّوحِنا} أي روحا من أرواحنا وهي روح عيسى.
وقد مضى في آخر سورة (النساء) بيانه مستوفى والحمد الله.
{وصدّقتْ بِكلِماتِ ربّها} قراءة العامة {وصدّقتْ} بالتشديد.
وقرأ حُميد والأموي {وصدقتْ} بالتخفيف.
{بِكلِماتِ ربّها} قول جبريل لها: {إِنّمآ أناْ رسُولُ ربِّكِ} [مريم: 19] الآية.
وقال مقاتل: يعني بالكلمات عيسى وأنه نبيّ وعيسى كلمة الله.
وقد تقدم.
وقرأ الحسن وأبو العالية {بِكلِمةِ ربِّها وكِتابِهِ}.
وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم {وكُتُبِه} جمعا.
وعن أبي رجاء {وكُتْبِهِ} مخفف التاء.
والباقون {بِكِتابِه} على التوحيد.
والكتاب يراد به الجنس؛ فيكون في معنى كل كتاب أنزل الله تعالى: {وكانتْ مِن القانتين} أي من المطيعين.
وقيل: من المصلّين بين المغرب والعشاء.
وإنما لم يقل من القانتات؛ لأنه أراد وكانت من القوم القانتين.
ويجوز أن يرجع هذا إلى أهل بيتها؛ فإنهم كانوا مطيعين لله.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لخديجة وهي تجود بنفسها: «أتكرهين ما قد نزل بك ولقد جعل الله في الكره خيرا فإذا قدمت على ضرّاتك فأقرئيهن مني السلام مريم بنْت عمران وآسية بنت مزاحم وكليمة أو قال حكيمة بنت عمران أخت موسى بن عمران» فقالت: بالرفاء والبنين يا رسول الله.
وروى قتادة عن أنس: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حسبك من نساء العالمين أربع مريم بنت عمران وخديجة بنت خُويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون بنت مزاحم» وقد مضى في (آل عمران) الكلام في هذا مستوفى والحمد الله. اهـ.

.قال أبو السعود:

{ضرب الله مثلا للذِين كفرُواْ} ضربُ المثلِ في أمثالِ هذهِ المواقعِ عبارةٌ عن إيرادِ حالةٍ غريبةٍ ليعرف بها حالةٌ أُخرى مشاكلةٌ لها في الغرابةِ أي جعل الله مثلا لحالِ هؤلاءِ الكفرةِ حالا ومآلا على أنّ مثلا مفعولٌ ثانٍ لضرب، واللامُ متعلقةٌ بهِ وقوله تعالى: {امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ} أي حالهُما، مفعولُهُ الأولُ أُخِّر عنْهُ ليتصل بهِ ما هو شرحٌ وتفصيلٌ لحالِهِما ويتضحُ بذلك حالُ هؤلاءِ فقوله تعالى: {كانتا تحْت عبْديْنِ مِنْ عِبادِنا صالحين} بيانٌ لحالِهِما الداعيةِ لهما إلى الخيرِ والصلاحِ أي كانتا في عصمةِ نبيينِ عظيمي الشأنِ متمكنتينِ من تحصيلِ خيري الدُّنيا والآخرةِ وحيازة سعادتيهِما. وقوله تعالى: {فخانتاهُما} بيانٌ لما صدر عنهُما من الجنايةِ العظيمةِ مع تحققِ ما ينفيها من صحبةِ النبيِّ أي خانتاهُما بالكفرِ والنفاقِ، وهذا تصويرٌ لحالهِما المحاكيةِ لحالِ هؤلاءِ الكفرةِ في خيانتِهِم لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالكفرِ والعصيانِ مع تمكنهِم التامِّ من الإيمانِ والطاعةِ. وقوله تعالى: {فلمْ يُغْنِينا} إلخ بيانٌ لما أدّى إليه خيانتُهُما أي فلم يُغنِ النبيانِ {عنْهُما} بحقِّ الزواجِ {مِن الله} أي مِن عذابِهِ تعالى {شيْئا} أي شيئا من الإغناءِ {وقِيل} لهما عند موتِهِما أو يوم القيامةِ {ادخلا النار مع الداخلين} أي مع سائرِ الداخلين من الكفرةِ الذين لا وصلة بينهُم وبين الأنبياءِ عليهِم السلامُ.
{وضرب الله مثلا للذِين ءامنُواْ امرأت فِرْعوْن} أي جعل حالها مثلا لحالِ المؤمنين في أنّ وصلة الكفرةِ لا تضرُّهم حيثُ كانتْ في الدُّنيا تحت أعدى أعداءِ الله وهي في أعلى غرفِ الجنةِ وقوله تعالى: {إِذْ قالتِ} ظرفٌ لمحذوفٍ أشير إليهِ أي ضرب الله مثلا للمؤمنين حالها إذْ قالتْ {ربّ ابن لِى عِندك بيْتا في الجنة} قريبا من رحمتك أو في أعلى درجاتِ المقربين. رُوِي أنها لما قالتْ ذلك أريتْ بيتها في الجنةِ من دُرّةٍ وانتُزِع رُوحُها {ونجّنِى مِن فِرْعوْن وعملِهِ} أي مِنْ نفسِه الخبيثةِ وعملِه السيِء {ونجّنِى مِن القوم الظالمين} من القبطِ التابعين لهُ في الظلمِ {ومرْيم ابنة عِمْران} عطفٌ على امرأةِ فرعونٍ تسلية للأراملِ أي وضرب الله مثلا للذين آمنُوا حالها وما أوتيتْ من كرامةِ الدُّنيا والآخرةِ والاصطفاء على نساءِ العالمين مع كونِ قومِها كُفارا {التى أحْصنتْ فرْجها فنفخْنا فِيهِ} وقرئ {فيها} أي مريمٌ {مِن رُّوحِنا} من رُوحٍ خلقناهُ بلا توسطٍ أصلا {وصدّقتْ بكلمات ربّها} بصحفِهِ المنزلةِ أو بما أوْحى إلى أنبيائِه {وكُتُبِهِ} بجميعِ كتبِه المنزلةِ وقرئ {بكلمةِ الله وكتابِه} أي بعيسى وبالكتابِ المنزلِ عليهِ وهو الإنجيلُ {وكانتْ مِن القانتين} أي من عدادِ المواظبين على الطاعةِ، والتذكيرُ للتغليبِ والإشعارِ بأنّ طاعتها لم تقصُرْ عنْ طاعاتِ الرجالِ حتى عُدّت مِنْ جُملتهم أو مِنْ نسلِهِم لأنّها من أعقابِ هارون أخِي مُوسى عليهما السلامُ.
وعن النبيِّ عليهِ الصلاةُ والسلام: «كمُل من الرجالِ كثيرٌ ولم يكملْ من النساءِ إلا أربعٌ آسيةُ بنتُ مُزاحمٍ ومريمُ بنتُ عمران وخديجةُ بنتُ خويلدٍ وفاطمةُ بنتُ محمدٍ صلواتُ الله عليهِ وفضلُ عائشة على النساءِ كفضلِ الثريدِ على سائرِ الطعامِ» وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «منْ قرأ سورة التحريمِ آتاهُ الله توبة نصاحا». اهـ.